كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهذا دليل من لفظ النبي الصريح على أن جزاء اعترافها بالزنا: هو رجمها فقط فربط هذا الجزاء بهذا الشرط أقسم النبي صلى الله عليه وسلم أنه قضاء بكتاب الله وهو متأخر عن حديث عبادة لما قدمنا.
وهذا دليل من لفظ قوي جدلًا لأن فيه إقسامه صلى الله عليه وسلم بأن الاعتراف بالزنا من المحصن يترتب عليه الرجم، ولا يخلو هذا الحديث من أحد أمرين: إما أن يكون صلى الله عليه وسلم اقتصر على قوله فارجمها أو يكون قال مع ذلك فاجلدها، وترطك الراوي الجلد، فإن كان قد اقتصر على الرجم، فذلك يدل على نسخ الجلد، لأنه جعل جزاء الاعتراف الرجم وحده، لأن ربط الجزاء بالشرط يدل على ذلك دلالة لفظية لا دلالة سكوت، وإن كان قال مع الرجم واجلدها، وحذف الراوي الجلد، فإن هذا النوع من الحذف ممنوع، ولا يجوز للراوي أن يفعله والراوي عدل فلن يفعله.
وقد أوضحنا في سورة الأنعام في الكلام على قوله: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ} [الأنعام: 145] الآية. أنه لا تعارض بين نصيب، مع اختلاف زمنهما كما هو التحقيق.
وأما القول الثالث وهو الفرق بين الشيخ والشاب، وإن وجهه ابن حجر بما ذكرنا فلا يخفى سقوطه.
قال مقدية عفا الله عنه وغفر له: دليل كل منهما قوي، وأقربهما عندي: أنه يرجم فقط، ولا يجلد مع الرجم لأمور:
منها: أنه قول جمهور أهل العلم، ومنها: أن روايات الاقتصار على الرجم في قصة ماعز، والجهينة، والغامدية، واليهوديين كلها متأخرة بلا شك عن حديث عبادة.
وقد يبعد أن يكون في كل منها الجلد مع الرجم، ولم يذكره أحد من الرواة مع تعدد طرقها.
ومنها: أن قوله الثابت في الصحيح «واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها» تصريح منه صلى الله عليه وسلم بأن جزاء اعترافها رجمها، والذي يوجد بالشرط هو الجزاء، وهو في الحديث الرجم فقط.
ومنها: أن جميع الروايات المذكورة المقتضية لنسخ الجمع بين الجلد والرجم على أدنى الاحتمالات لا تقل عن شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات.
ومنها: أن الخطأ في ترك عقوبة لازمة أهون من الخطأ في عقوبة غير لازمة. والعلم عند الله تعالى.
قال بعضهم ويؤيده من جهة المعنى أن القتل بالرجم أعظم العقوبات فليس فوقه عقوبة فلا داعي للجلد معه لاندراج الأصغر في الأكبر.
فروع تتعلق بهذه المسألة:
الفرع الأول: إذا ثبت الزنا على الزاني فظن الإمام أنه بكر فجلده مائة، ثم ثبت بعد جلده أنه محصن فإنه يرجم، ولا ينبغي أن يختلف في هذا، وقد قال أبو داود رحمه الله في سننه: حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: ثنا ح وثنا ابن السرح المعنى قال: أخبرنا عبد الله بن وهب، عن ابن جريج، عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه: أن رجلًا زنى بامرأة فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم، فجلد الحد، ثم أخبر أَنه محصن، فأمر به فرجم. قال أبو داود: روى هذا الحديث محمد بن بكر البرساني، عن ابن جريج موقوفًا على جابر ورواه أبو عاصم عن ابن جريج بنحو ابن وهب، لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن رجلًا زنى فلم يعلم إحصانه، فجلد ثم علم بإحصانه فرجم».
حدثنا محمد بن عبد الرحيم أبو يحيى البزار؛ أخبرنا أبو عاصم عن ابن جريج عن أبي الزبير، عن جابر: أن رجلًا زنى بامرأة فلم يعلم بإحصانه فجلد، ثم علم بإحصانه فرجم. اهـ. من سنن أبي داود.
وقال الشوكاني رحمه الله في نيل الأوطار في حديث أبي داود هذا ما نصه: حديث جابر بن عبد الله سكت عنه أبو داود والمنذري، وقدمنا في أول الكتاب أن ما سكتا عنه، فهو صالح للاحتجاج به، وقد اخرجه أبو داود عنه من طريقين، ورجال إسناده رجال الصحيح، وأخرجه أيضًا النسائي اه منه.
الفرع الثاني: قد قدمنا في الروايات الصحيحة: أن الحامل من الزنا لا ترجم، حتى تضع حملها وتفطمه، أو يوجد من يقوم برضاعه، لأن رجمها وهي حامل فيه إهلاك جنينها الذي في بطنها وهو لا ذنب له، فلا يجوز قتله، وهو واضح مما تقدم.
الفرع الثالث: اعلم أن العلماء اختلفوا فيمن وجب عليه الرجم، هل يحفر له أو لا يحفر له؟ فقال بعضهم: لا يحفر له مطلقًا، وقال بعضهم: يحفر لمن زنى مطلقًا، وقيل: يحفر للمرأة إن كان الزنا ثابتًا بالبينة دون الإقرار، واحتج من قال: بأن المرجوم لا يحفر له بما ثبت في صحيح مسلم، وغيره، عن أبي سعيد الخدري في قصة رجم ماعز، ولفظ مسلم في صحيحه في المراد من الحديث قال: فما أوثقناه، ولا حفرنا له الحديث، وفيه التصريح من أبي سعيد في هذا الحديث الصحيح: أنهم لم يحفروا له. وقال النووي في شرح مسلم في الكلام على قول أبي سعيد: فما أوثقناه، ولا حفرنا له ما نصه: وفي الرواية الأخرى في صحيح مسلم، فلما كان الرابعة حفر له حفرة ثم أمر به فرجم. وذكر بعده في حديث الغامدية، ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها. أما قوله: فما أوثقناه فهكذا الحكم عند الفقهاء. وأما الحفر للمرجوم والمرجومة ففيه مذاهب للعلماء.
قال مالك، وأبو حنيفة، وأحمد رضي الله عنهم في المشهور عنهم: لا يحفر لواحد منهما.
وقال قتادة، وأبو ثور، وأبو يوسف، وأبو حنيفة في رواية: يحفر لهما.
وقال بعض المالكية: يحفر لمن يرجم بالبينة لا من يرجم بالإقرار.
وأما أصحابنا فقالوا: لا يحفر للرجل سواء ثبت زناه بالبينة أم بالإقرار.
وأما المراة ففيها ثلاثة أوجه لأصحابنا.
أحدها: يستحب الخفر لها إلى صدرها، ليكون أستر لها.
والثاني: لا يستحب ولا يكره، بل هو إلى خيرة الإمام.
والثالث: وهو الأصح إن ثبت زناها بالبينة استحب، وإن ثبت بالإقرار فلا، ليمكنها الهرب إن رجعت. فمن قال بالحفر لهما احتج بأنه حفر للغامدية، وكذا لماعز في رواية، ويجيب هؤلاء عن الرواية الأخرى في ماعز أنه لم يحفر له، أن المراد حفيرة عظيمة أو غير ذلك من تخصيص الحفيرة.
وأما من قال: لا يحفر فاحتج برواية من روى فما أوثقناه، ولا حفرنا له، وهذا المذهب ضعيف، لأنه منابذ لحديث الغامدية ولرواية الحفر لماعز.
وأما من قال: بالتخيير فظاهر وأما من فرَّق بين الرجل والمرأة، فيحمل رواية الحفر لماعز، على أنه لبيان الجواز، وهذا تأويل ضعيف، ومما احتج به من ترك الحفر حديث اليهوديين المذكور بعد هذا، وقوله جعل يجنأ عليها، ولو حفر لهما لم يجنأ عليها. واحتجوا أيضًا بقوله في حديث ماعز: فلما أذلقته الحجارة هرب، وهذا ظاهر في أنه لم تكن حفرة والله أعلم. انتهى كلام النووي. وقد ذكر فيه أقوال اهل العلم في المسألة، وبين حججهم، وناقشها، وقد ذكر في كلامه، أن المشهور عن أبي حنيفة عدم الحفر للرجل والمرأة. والظاهر أن المشهور عند الحنفية الحفر للمرأة دون الرجل، وأنه لو ترك الحفر لما معًا فلا بأس.
قال صاحب كنز الدقائق في الفقه الحنفي: ويحفر لها في الرجم لا له، وقال شارحه في تبيين الحقائق: ولا بأس بترك الحفر لهما، لأنه عليه الصلاة والسلام لم يأمر بذلك اهـ. وقال ابن قدامة في المغني في الفقه الحنبلي: وإن كان الزاني رجلًا أقيم قائمًا، ولم يوثق بشيء ولم يحفر له، سواء ثبت الزنا ببينة أو إقرار لا نعلم فيه خلافًا لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحفر لماعز.
قال أبو سعيد: لما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم برجم ماعز، خرجنا به إلى البقيع فوالله ما حفرنا له، ولا أوثقناه، ولكنه قام لنا رواه أبو داود، ولأن الحفر له ودفن بعضه عقوبة لم يرد بها الشرع في حقه، فوجب ألا تثبت، وإن كان امرأة فظاهر كلام احمد أنها لا يحفر لها أيضًا، وهو الذي ذكره القاضي في الخلاف، وذكر في المحرر أنه إن ثبت الحد بالإقرار لم يحفر لها، وإن ثبت بالبينة حفر لها إلى الصدر.
قال أبو الخطاب: وهذا أصح عندي، وهو قول أصحاب الشافعي لما روى أبو بكرة، وبريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم امرأة فحفر لها إلى التندوة رواه أبو داود، ولأنه أستر لها، ولا حاجة لتمكينها من الهرب لكون الحد ثبت بالبينة، فلا يسقط بفعل من جهتها بخلاف الثابت بالإقرار، فإنها تترك على حال، لو أرادت الهرب تمكنت منه، لأن رجوعها عن إقرارها مقبول، ولنا أن أكثر الأحاديث على ترك الحفر. فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحفر للجهنية ولا لماعز، ولا لليهوديين، والحديث الذي احتجوا به غير معمول به، ولا يقولون به، فإن التي نقل عنه الحفر لها ثبت حدها بإقرارها، ولا خلاف بيننا فيها، فلا يسوغ لهم الاحتجاج به مع مخالفتهم له إذا ثبت هذا فإن ثياب المرأة تشد عليها كيلا تنكشف. وقد روى أبو بإسناده عن عمران بن حصين قال: فأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم فشدت عليها ثيابها، ولأن ذلك أستر لها اه من المغني.
وقد علمت مما ذكرنا أقوال أهل العلم وأدلتهم في مسألة الحفر للمرجوم من الرجال والنساء.
قال مقيدة عفا الله عنه وغفر له: أقوى الأقوال المذكورة دليلًا بحسب صناعة أصول الفقه، وعلم الحديث: أن المرجوم يحفر له مطلقًا ذكرًا كان أو أنثى ثبت زناه ببينة، أو بإقرار، ووجه ذلك أن قول أبي سعيد في صحيح مسلم: فما أوثقناه ولا حفرنا له يقدم عليه ما رواه مسلم في صحيحه من حديث بريدة، بلفظ: فما كان الرابعة حفر له حفرة، ثم أمر به فرجم، اهـ. وهو نص صحيح صريح في أن ماعزًا حفر له.
وظاهر الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الحافر له أي بأمره بذلك فبريدة مثبت للحفر، وأبو سعيد نافٍ له، والمقرر في الاصول وعلم الحديث: أن المثبت مقدم على النافي، وتعتضد رواية بريدة هذه بالحفر لما عز بروايته أيضًا في صحيح مسلم بنفس الإسناد أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالحفر للغامدية إلى صدرها وهذا نص صحيح صريح في الحفر للذكر والأنثى معًا، أما الأنثى فلم يرد ما يعارض هذه الرواية الصحيحة بالحفر لها إلى صدرها، وأما الرجل فرواية الحفر له الثابتة في صحيح مسلم مقدمة على الرواية الأخرى في صحيح مسلم بعدم الحفر، لأن المثبت مقدم على النافي.
وقول ابن قدامة في المغني: والحديث الذي احتجوا به غير معمول به ظاهر السقوط، لأنه حديث صحيح وليس بمنسوخ، فلا وجه لترك العمل به مع ثبوته عنه صلى الله عليه وسلم كما ترى، وبالرواية الصحيحة التي في صحيح مسلم من حديث بريدة أنه صلى الله عليه وسلم حفر للغامدية، وزناها ثابت بإقرارها، لا ببينة تعلم أن الذين نفوا الحفر لمن ثبت زناها بإقرارها مخالفون لصريح النص الصحيح بلا مستند كما ترى، والعلم عند الله تعالى.
الفرع الرابع: اعلم أن أهل العلم اختلفوا فيمن يبدأ بالرجم فقال بعضهم: إن كان الزنا ثابتًا ببينة، فالسنة أن يبدأ الشهود بالرجم، وإن كان ثبت بإقرار بدأ به الإمام أو الحاكم، وإن كان ثبت عنده، ثم يرجم الناس بعده، وهذا مذهب أبي حنيفة، وأحمد، ومن وافقهما. واستدلوا لبداءة الشهود، وبداءة الإمام بما ذكره ابن قدامة في الفقة الحنبلي، وصاحب تبيين الحقائق في الفقه الحنفي.
قال صاحب المغني: وروى سعيد بإسناده عن علي رضي الله عنه: أنه قال الرجم رجمان، فما كان منه بإقرار فأول من يرجم الإمام ثم الناس، وما كان ببينة؛ فأول من يرجم البينة ثم الناس، ولأن فعل ذلك أبعد لهم من التهمة في الكذب عليه. اه منه.
وحاصل هذا الاستدلال: أثر مروي عن علي، وكون مباشرتهم الرمي بالفعل أبعد لهم من التهمة في الكذب عليه، وهذا كأنه استدلال عقلي لا نقلي. اهـ.
وقال صاحب تبيين الحقائق في شرحه لقول صاحب كنز الدقائق: يبدأ الشهود به فإن أبوا سقط ثم الإمام ثم الناس، ويبدأ الإمام، ولو مقرًا ثم الناس.
ما نصه: أي يبدأ الشهود بالرجم. وقال الشافعي: لا تشترط بداءتهم اعتبارًا بالجلد، ولنا ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال حين رجم شراحة الهمدانية: إن الرجم سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان شهد على هذه أحد لكان أول من يرمي الشاهد يشهد، ثم يتبع ربما يتجاسر على الشهادة ثم يستعظم المباشرة فيأبى أو يرجع، فكان في بداءته احتيال للدرء بخلاف الجلد، فإن كل أحد لا يحسنه، فيخاف أن يقع مهلكًا أو متلفًا لعضو، وهو غير مستحق ولا كذلك الرجم، لأن الإتلاف فيه متعين.